zaïla.Histoire 

اسامة الزكاري

ZAILA.COM
Asilah.fr

MENU

CULTURE LOCALE

اسامة  الزكاري واحد من ابناء مدينة اصيلة, بها نشأ وترعرع وشب, وهو يعتبر من انشط وأشهر الباحثين المغاربين في التاريخ المعاصر, نشر مئات المقالات العلمية في العديد من الصحف المغربية والعربية , قال عنه الدكتور عبداللطيف شهبون : هو في حد ذاته مؤسسة ثقافية وباحث عميق النظرة, ابعاده الثقافية متشعبة, فضلا عن ذاك فهو رجل خلوق

اسماء التمالح
aswattv

أسامة الزكاري 

كتابات في تاريخ منطقة الشمال: ديوان “الليل الأبيض”

لا يمكن الحديث عن أعلام الفكر والثقافة والإبداع والإعلام بمدينة أصيلا المعاصرة بدون الإحالة المستمرة على تجربة الشاعر والصحفي محمد البوعناني. ولا يمكن تنظيم الاشتغال على الذاكرة الجماعية للمدينة، سواء في بعدها المادي المباشر أم في أبعادها المجردة المرتبطة بالتراث الرمزي، بدون الانفتاح على خزانة البوعناني وعلى وثائقه وعلى “أوراقه” التي تطلب أمر تجميعها وتصنيفها عقودا زمنية طويلة. لقد أصبح محمد البوعناني وجها بهيا لمعالم الهوية الثقافية للمدينة، ولا أعرف شخصا حمل مدينة أصيلا في قلبه وتنقل بها عبر كل بقاع العالم، مثلما فعل محمد البوعناني.
ففي كل سكناته وإبداعاته وأعماله، داخل المغرب وخارجه، ظل محمد البوعناني يخصص حيزا لمدينته/ معشوقته من أجل ضمان مكان لها داخل ساحة التواصل الإعلامي والأدبي والثقافي المرتبط بمعالم النبوغ المغربي المعاصر. وأكاد أجزم أن قطاعات عريضة من الرأي العام الوطني قد تعرفت على مدينة اصيلا من خلال تجارب محمد البوعناني الإعلامية والشعرية. ولا شك أن العودة إلى سلسلة برامجه الإذاعية والتلفزيونية تكشف عن هذه الحقيقة بكل وضوح، مثلما هو الحال مع برامج “المفاتيح السبعة” و”خميس الحظ” و”مجلة البحر” وغيرها. إنه عشق صوفي لفضاءات المدينة ولمعالمها المكانية والبشرية، تشربه منذ نعومة أظافره وظل يلازمه إلى يومنا هذا، الأمر الذي تكشف عن إرهاصاته الأولى كتاباته الشعرية لمرحلة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي على صفحات جرائد الحركة الوطنية ومجلاتها التي كانت تصدر بمدينة تطوان، مثلما هو الحال مع مجلة “الأنيس” ومجلة “الأنوار”.   

لقد سكنت أصيلا روح المبدع والإعلامي البوعناني، عندما غادر المغرب والتحق للعمل بمنابر إعلامية عالمية بكل من إسبانيا وفرنسا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي. فظل حريصا على ضمان حضور اسم مدينة أصيلا في جل ما كان ينجزه ويقدمه من برامج ومن مشاريع، ولم يكن يفوت أي فرصة لتأكيد هذا الحضور، حتى ولو تعلق الأمر بالتعليق على مباراة رياضية في كرة القدم في البطولة الإسبانية على سبيل المثال. ولعل من الطرائف التي تحكى في هذا الباب، أنه، وأثناء تعليقه على إحدى مباريات الدوري الإسباني لكرة القدم عند مطلع ستينيات القرن 20، استهل حديثه بالإشارة إلى العدد التقديري للجمهور الحاضر في الملعب. فأشار إلى أن الأمر كان قد بلغ حوالي خمسة عشر ألفا من المتفرجين. وإذا كانت الأمور عادية في هذا المستوى، فإن البوعناني سرعان ما فتح قوسا للاستطراد في حديثه عن هذا العدد بالإشارة إلى أنه كان رقما هاما يذكره بعدد ساكنة إحدى المدن المغربية الواقعة بشمال المغرب، اسمها أصيلا، فراح يتحدث عن هذه المدينة وعن تاريخها وعن أعلامها وعن معالمها التاريخية، ناسيا بالكامل أنه كان بصدد التعليق على مباراة في كرة القدم داخل البطولة الإسبانية. 

ولد محمد البوعناني سنة 1929 بمدينة أصيلا، حيث تلقى تعليمه الأولي، قبل أن ينتقل لمدينة تطوان لمتابعة دراسته الثانوية، حيث تخرج من مدرسة المعلمين العليا سنة 1950. فزاول التعليم بمدينتي الناظور وتطوان إلى أن اجتذبته الصحافة والعمل الإذاعي والتلفزيوني، فعمل في حقلها بالمغرب وفرنسا وإسبانيا التي عين فيها مندوبا للإذاعة والتلفزيون المغربي لدى التلفزيون الإسباني والأوروفزيون. بعد عودته النهائية للمغرب، تابع عمله في المجال الإعلامي السمعي البصري، واشتهر بإنتاجه الإذاعي والتلفزي الغزير من خلال برامجه المتخصصة في المسابقات الثقافية والبحر والفكاهة. وبموازاة ذلك، كانت له إسهامات جمة في المجال الثقافي والأدبي، داخل المغرب وخارجه، حيث شارك في العديد من الندوات والمنتديات الثقافية، وساهم في تعزيز مساره الإبداعي بسلسلة كتاباته الشعرية الغزيرة بالمنابر الإعلامية المغربية والعربية المختلفة. 

وتجميعا لذخائر هذا الإبداع الشعري الكثيف، أصدر محمد البوعناني ديوانا تحت عنوان “الليل الأبيض”، سنة 1996، وذلك في ما مجموعه 160 من الصفحات ذات الحجم الكبير. وقد أبرز الشاعر الأفق العام الذي وجه عمله في هذا التجميع الراقي، عندما قال في كلمته التقديمية الشاعرية الرائعة: “إليك يا قارئي ديواني الأول “الليل الأبيض” الذي اخترت أن تتعرف عليه تلقائيا بلا وساطة من أحد الأدباء أصدقائي الكثيرين، لأن ما يهمني هو إحساسك التلقائي، وتجاوبك الطبيعي مع هذه المختارات المتناثرة، بلا تنظيم وتقديم، منها التي نشرت شرقا وغربا، ومنها التي ألقيت في ندوات أو أمسيات خاصة وعمومية، وبعضها اضطررت لتغيير عناوينها أو بعض عباراتها تجنبا للجرح والتأويل العقيم. وعن طريقك سأعرف المدى الذي يستحقه “ليلي الأبيض” هذا، وأنا أحاول تطبيعه تدريجيا بين ليالي الخصب والعطاء والتجاوب” (ص. 3).

لقد احتوى الديوان على سلسلة نصوص موزعة في تواريخها بين خمسينيات وتسعينيات القرن الماضي، تشكل اختزالا لمعالم خصوصيات التجربة الشعرية للمبدع محمد البوعناني، وخاصة على مستوى وفائه للقصيدة العمودية وللقافية ولبنية الموسيقى داخل القصيدة المجددة المسماة – تجاوزا – شعرا حرا. وإذا كنا، في هذا المقام، لا ننوي الغوص بين ثنايا الجانب الفني والمهاري في صنعة الكتابة الشعرية لدى المبدع البوعناني، فإننا نؤكد – في المقابل – على غزارة المضامين وعلى تنوع قضاياها المرتبطة بموقع الشاعر من القضايا الكبرى للوجود وللذات وللانتماء وللهوية، في إطار استعارات وتراكيب بلاغية ومحسنات جمالية تشكل عنوانا لمعالم نبوغ قصيدة محمد البوعناني داخل سياقاتها الوطنية والعربية الواسعة.

وداخل هذه السياقات، تحضر المعشوقة أصيلا منتصبة كعلامة فارقة في احتفاء الشاعر بحميمياته المخصوصة. وقد أفرد لها حيزا هاما من النصوص المستقلة، أو أدرجها في إطار أشمل عالج فيه قضايا أخرى مختلفة. ويمكن القول إن فضاءات أصيلا والأحلام النوسطالجية المهيمنة على ذات الشاعر، قد هيمنت على أجواء الديوان وجعلته يتنفس من عبقها ومن سحرها ومن عطاء تاريخها المديد.

ولإنهاء هذا التقديم المقتضب، نقترح الاستدلال ببعض مما كتبه الشاعر في مناجاة معشوقته أصيلا، ففي ذلك اختزال لمجمل عناصر التفرد التي ميزت رصيد منجز الشاعر محمد البوعناني في احتفائه بالمكان وبرموزه. فمما قاله الشاعر في قصيدة “أصيلة، مدينة السماء“:

يا ريح تيهي.. وهبي         على الضفاف الأمينه     
ودغدغي كل رطب          في أمسيات أصيلـــه       
مدينتي كـــــل درب          مصحاة عين السكينه   
مدينتي أنت لـــــــبي         ودفتي في السفيـــــنه 
لباب ليلي، بشربــــي        قياسه ألف ليــــــــــلة   
دنت سماوات ربـــي       تختار أحلى مدينــــــــه   
كقبلة للحـــــــــــــب       فلم تجد كأصيلـــــــــــه” (ص. 65).

ومما قاله الشاعر في نص “أصيلة.. وطن للسماء” : 
“تنام السماء على وطني 
فيحتل وجه أصيلة واجهة الشمس…   
يحتل دائرة الزمن،
وتصبح معشوقتي للسماء وطن.   
بحار الشمال تُكحّل 
أعينها بصواري السفن 
وأمواجها من يد الريح 
تسحب أحجية مستحيلة 
ونحن أناس، لنا القلب في كل صدر،
لنا العمق في كل بحر،
لنا الخال في كل نحر،     
لنا النور في كل عين جميلة،
لأن الصباح تزوج ضحكته في أصيلة” (ص. 127).

كتابات في تاريخ منطقة الشمال: ديوان “الليل الأبيض”