zaïla.Histoire 

اسامة الزكاري

ZAILA.COM
Asilah.fr

MENU

CULTURE LOCALE

كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
أبو الخير الناصري في مجموعته القصصية "فحص مضاد"
أسامة الزكاري


ظلت تفاصيل الذاكرة الجمعية منجما لا ينضب لإنتاج النصوص السردية داخل حصيلة تراكم الإبداع النثري المغربي، رواية وقصة ومسرحا. وظلت الكتابة الاسترجاعية المشتغلة على جزئيات الهامش المتدافعة في سياق الانشغالات اليومية للمجتمع، مرجعا لإنتاج خطاب الفردانية المُحتفي بحميمياته، والمنصت لنبض التحول داخل المجتمع. لا يتعلق الأمر بكتابة خطية للسيرة الذاتية، ولا بتوثيق تاريخي تخصصي لعلاقات الثابت بالمتغير على مستوى الذهنيات الجماعية وعلى مستوى أنماط تدبير المعيش اليومي للمجتمع، بقدر ما أنها استلهام جمالي لحلقات الزمن "الذي كان"، في أفق تحويله إلى بؤرة للخلق وللإبداع، وقبل ذلك، لأنسنة القيم والمواقف والمسلكيات. فإذا كان المؤرخ يظل مهووسا بهاجس القبض على الشواهد المادية المباشرة، فإن ذلك لا يحمل كل عناصر الصورة ولا تفاصيل الوقائع غير المادية ومكونات التراث الرمزي. لذلك، تظل الكتابة السردية الإبداعية أداة فعالة للتوثيق لما لا يمكن التوثيق له في سياق الكتابة التاريخية التخصصية الحصرية، مثل عوالم الأساطير، ومقامات التقديس، وسياقات المشاعر، وآفاق الأحاسيس، أي باختصار، كل ما نصفه بمكونات التراث الرمزي اللامادي الذي تختزله الذاكرة الشعبية والمحكيات الشفاهية. ولعل هذا ما جعل مؤرخ الزمن الراهن، يعود لتحقيق التصالح الضروري مع المتون الإبداعية، ليس بهدف استغلالها كمظان للتدوين التاريخي، ولا بهدف إنجاز دراسات نقدية على مستوى اللغة والاستعارات والمجازات والمحسنات التقنية، ولكن -أساسا- بهدف تفكيك خبايا تاريخ الذهنيات الذي ينتج نصوصا على نصوص، وكتابات على كتابات، ومحكيات على محكيات،... تظل عنوانا لنبوغ الوسط المجتمعي الحاضن، ولتميز الذوات الفردية المُنتشية بحميمياتها.
في هذا الإطار، يندرج انفتاحنا على العمل الأخير للأستاذ أبو الخير الناصري، الصادر خلال سنة 2022، في شكل مجموعة قصصية، تحت عنوان "فحص مضاد"، وذلك في ما مجموعه 98 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول، إن العمل الجديد للأستاذ الناصري، ينسجم مع الأفق العام النظري المؤطر لمضامين مجموع النصوص القصصية الواردة في الكتاب، سواء على مستوى لغتها الشفيفة المحتفية بغواية السرد، أم على مستوى استلهامها لتفاصيل الواقع لتقديم كتابة تشريحية لالتباسات هذا الواقع ولمنغلقات تطوره التي تختزلها سلوكات قائمة، معيقة، ومنفرة، لدى الفرد والجماعة. والحقيقة إن هذا العمل يشكل امتدادا لسلسلة الأعمال المنشورة للأستاذ الناصري، وخاصة على مستوى الوفاء لثوابت الكتابة، ولأشكال تطويع اللغة، ولاستثمار العمق الإنساني داخل ملكة الحكي، قصد تشييد العوالم المشتهاة، عوالم أبو الخير الناصري وأسئلته وقلقه المرتبط بهواجس الكتابة وبمخاضات الإبداع، حيث الإخلاص لمبدأ "لا أعبد ما تعبدون".
تعبر نصوص "فحص مضاد" عن مستويات عليا في تطويع متع السرد داخل قوالب لغوية شيقة، لعلها مرتبطة بالتكوين الأكاديمي الرفيع للمؤلف على هذا المستوى، وهو التكوين الذي جعله يتحول إلى واحد من أبرز الباحثين الرواد المسكونين بأسئلة اللغة العربية وبأنماط تفكيك بناها وبآفاق استثمار ممكناتها. أما على مستوى المضامين، فقد حرص الأستاذ أبو الخير الناصري على توظيف تفاصيل الذاكرة من أجل توسيع دوائر الخلق لدى روحه المبدعة، حيث جمال السرد، وحيث متع الاستذكار، وحيث الافتتان بالمكان الذي تجسده معشوقته مدينة أصيلا كملهمة لذات الكاتب، في ما يمكن رصد تقاطعاته مع تخصصات علمية مرتبطة بعلم التاريخ اختارت الاشتغال على ذاكرة الأمكنة وتوظيف محكياتها داخل تفاصيل المتن. في هذا الإطار، جمعت لغة الأستاذ أبو الخير الناصري بين عمقين متلازمين في بنية سرده، يرتبط أولهما بحضور معالم مدينة أصيلا وشواهدها المادية داخل نسق السرد. ويرتبط ثانيهما بتوظيف تجارب المؤلف في العملية المعقدة لتوليد الرموز والقيم والمرجعيات.
ففي سياق الحديث عن العمق الأول، ظل المؤلف حريصا على استلهام فضاءات مدينة أصيلا وعلى تحويلها إلى مرتكزات أساسية تنهض عليها كل الجزئيات والتفاصيل، معيدا تشريح المواقف والسلوكات اليومية والانفعالات الفطرية المرتبطة بذاكرة المكان وبسلطه اللامتناهية. فخلف كل قصة، تنهض أمكنة، وتحضر وجوه، لينبثق متن تركيبي يحسن توظيف "العين الثالثة" للمبدع بعد تكييفها مع فعل التخييل ومع ملكة الخلق. ففي نص "بسمة شرطي"، أصر المؤلف على استهلال سرده بصيغة: "كان موقف السيارات خلف سينما ماكالي..." (ص.7)، وتستمر الحكاية. وفي نص "كليينيطي"، يفتتح المؤلف سرده بصيغة: "تجاوزت مطعم Casa Pépé وتقدمت بخطى..." (ص.31). وفي نص "ليلة من حياة نادل"، يقول المؤلف: "كان بعض السياح الأجانب ينظرون من "الطيقان" إلى ضوء القمر..." (ص.51). وفي نص "كليينطي" مرة أخرى، يستحضر المؤلف مهد الصبا قائلا: "أذكر طفولتي بحي للارحمة..." (ص.32). وفي نفس النص، يستلهم السارد إحدى معالم المدينة، قائلا: "قريبا من حديقة محمد عابد الجابري..." (ص.32)، وتنساب الحكاية... وفي نص "ليلة من حياة نادل"، يعود السارد مرة أخرى لاستنفار ذاكرة المكان، قائلا: "ما أن تجاوزنا قصر الريسوني بخطوات قليلة..." (ص.52)، قبل أن تنهال تفاصيل السرد.
والملاحظ أن هذا النمط من التدوين، ظل مهيمنا على سياقات السرد في كل عناصره المهيكلة للمتن، بعد أن أصبح عنصرا موجها للبعد الحكواتي للنصوص. تحضر فضاءات أصيلا قوية بعد أن تستنطقها غواية المؤلف في تطويع ملكة اللغة الانسيابية التي تجعل الأماكن "الخرساء" تتحول إلى أعلام إسمنتية "ناطقة"، مثلما هو الحال مع فضاءات "مقهى الأميرة" (ص.31)، ومدرسة ابن خلدون (ص.32)، و"مقهى مكناس" (ص.59)، و"فندق الصحراء" (ص.63). وبهذه الصفة، يعيد المؤلف بث الروح في المعالم الإسمنتية المنتصبة ك"أنياب في وجه المدينة" -مع الاعتذار للمبدع مصطفى يعلى الذي اقتبسنا منه عنوان إحدى مجموعاته القصصية- بعد أن يتملكها، وبعد أن يتخلص من برودتها القاتلة، وبعد أن يضفي عليها قيمه الجمالية والإنسانية المتميزة.
هذا على مستوى توظيف المؤلف لخصوبة الفضاء العام المحتضن لوقائع المحكيات، أما بالنسبة لتجارب ذات المؤلف، فقد نالت نصيبها من سطوة الاستنطاق، لتصبح -بدورها- عناصر ارتكازية في كل عمليات بناء المتن وتشييد وقائعه. دليل ذلك، نزوع المؤلف نحو إدماج تجاربه الشخصية ومشاهداته ضمن نسق السرد، ليتحول إلى عملية توليد خصب داخل المخيال الجماعي الذي ينطلق منه المؤلف في كل عمليات الحكي. أستشهد -في هذا الباب- بتجربة السارد الخاصة بذكرياته مع "الكتاب الأول" أو الإصدار الأول (ص.20)، أو مع استحضاره لذكرى رفيقه المرحوم الكاتب محمد البغوري الذي رحل عن عالمنا على حين غرة (ص.31)، أو عن معاناته المرتبطة ب"السرقة غير الأدبية" (ص.41)، أو مع حالة اليأس المرتبط بسلخ جزء من العمر في العمل داخل المطاعم والمقاهي (ص.55)، أو مع بعض المشاكل المرتبطة بإكراهات المسار المهني (ص.89)، أو مع حميميات استحضار السارد لذكرى الوالد الذي انتقل إلى العالم الآخر مخلفا ذكراه الملهمة للنفوس وللآمال وللانتظارات (ص.15).
هل سنعتبر هذا البعد قراءة تركيبية لمجمل التمثلات التي يحملها الأستاذ أبو الخير الناصري عن ذاته وعن محيطه وعن أحلامه؟ لا يمكن المجازفة بالرفع من سقف التأويلات، وحسبنا الانتشاء بمُتع فعل التذكر الاسترجاعي، وبلذة الاحتكاك بعنفوان اللغة العربية الراقية، حيث يحضر المعنى، ويحضر القلق، ويحضر الأمل. إنه أمل مُشرع على عوالم الأستاذ أبو الخير الناصري، المبدع والمثقف والإنسان.

كتابات في تاريخ منطقة الشمال:
أبو الخير الناصري في مجموعته القصصية "فحص مضاد"
أسامة الزكاري